رائحة الفلفل

رائحة الفلفل
تحليل وتأريخ وسِير لانتفاضات العراق

حيّر حراك تشرين الأوّل / أكتوبر عام ٢٠١٩ الكُتّاب والمراقبين والباحثين داخل العراق وخارجه. فبينما اعتبر بعضهم ما حصل تظاهرات مطلبيّة واسعة تسير على الطريق التي سارت عليها التظاهرات السابقة، اعتبرها آخرون انتفاضة وهبّة شعبيّة ضد منظومة الحكم التي تسيطر على السلطة في العراق منذ الغزو الأمريكي في نيسان / أبريل عام ٢٠٠٣. بالمقابل، فإن قسماً كبيراً من الكتّاب والباحثين، وبالأساس عدد كبير من المتظاهرين، اعتبرها ثورة شعبيّة للإطاحة بالنظام السياسي والدفع لإحلال بديل عنه.
وحتّى في أجزاء واسعة من هذا الكتاب، فإن التسميّة ظلّت تتغيّر من احتجاجات إلى انتفاضة إلى ثورة، وبعض الأحيان، يستعين الكُتّاب بالتسميات الثلاث في فصل واحد؛ ومرد ذلك، ربما، إلى عامل الزمن. لقد خرج السكّان إلى الشوارع بكثافة لم يشهد لها العراق في تاريخه الحديث مثيلاً، وهو الأمر الذي جعل الفعل متقدّماً على التنظير، ومن ثم صعوبة فهم الأحداث وبلورة مصطلحات لتفسيرها بالسرعة نفسها التي سارت عليها الأحداث.

وبالنسبة لجميع هذه التسميّات، فإن فيها من الصحّة ما يفوق الخطأ. فما جرى احتجاجات واسعة على تردّي الواقع الخدمي واتساع البطالة، وهي، بطبيعة الحال، استمراراً للتظاهرات المطلبيّة التي سبقتها بدءاً من شباط / فبراير عام ٢٠١١. وهي كذلك انتفاضة المجتمع على سياسات الفساد والإفقار وتردي الواقعين السياسي والاقتصادي، كما أنّها ثورة لجيل حُكم لنحو عقدين بسياسات الأزمة، وفقد، نتيجة لذلك، أي علاقة تربطه بالسلطة وأحزابها، ولذلك خرج يبحث عن تأسيس عقد اجتماعي جديد ونظام سياسي يمثّله، كما أنّها ثورة لأنّها طوّرت أدواتها على نحو كبير، واستفادت من تجارب وأخطاء سابقة وحاولت تجاوزها لتنال مُرادها. وهي ثورة اجتماعية كذلك، إذ لا يمكن إغفال الجانب الاجتماعي وصراع الأجيال في الاحتجاجات؛ فثمّة فئة واسعة من الشباب أظهروا توقاً كبيراً لإرساء ثقافة جديدة تتجاوز الثقافة المحافظة المتجذرة في العشيرة والطائفة والدين التي ما انفكت تظهر خلال العقد الأخير. لقد أسقط شبّان حاجزاً بُني على مدار أعوام للعلاقات الاجتماعية بين الذكور والإناث، وهدموا أسطورة "الجد" التي رافقت الاحتجاجات السابقة وأحلّوا مكانها طابعاً احتفالياً يستخدم الموسيقى والغناء والكنايات والاستعارات المُضحكة. إلى جانب ذلك، هي ثورة لأنها حاولت وصم من يستخدم الهويات الفرعيّة بـ"العيب" إذا ما استخدمها لأغراض تصنّف أُناساً دون مواطنين. وبالمحصلة، فإنها ثورة حاولت إرساء نمط جديدة على مستويّات عدّة، تتجاوز الأنماط القديمة التي تحكم المجتمع والسياسة.

إن هذا الكتاب يُحاول فهم كل هذه المظاهر ومظاهر أخرى، ويسعى إلى أن يكون وثيقة يُمكن العودة إليها لفهم ما حصل في شهر تشرين الأوّل / أكتوبر عام ٢٠١٩ والأشهر التي لحقته. لكن، ورغم ذلك، فإن الكتاب إذا ما اتخذ من احتجاجات تشرين منطلقاً، فإنه يعود مراراً إلى الاحتجاجات السابقة التي شهدها العراق، ومحاولات المجتمع المستمرة لإحداث تغيير سياسي.

ولأن خطاب التظاهرات كان مختلفاً، فإن الكتاب أيضاً سعى لأن يحمل اسماً مغايراً. إن "رائحة الفلفل" جملة تكرّرت على مدار أكثر من عام على مسمعي، حيث ذكر عدد كبير ممن أجريت معهم مقابلات لإتمام هذا الكتاب أو لغرض إنجاز قصص صحفيّة ومقالات أخرى، أن رائحة القنابل الدخانية التي استخدمت بكثافة ضدهم كانت تشبه رائحة الفلفل الأسود المطحون. ولم يتردّد الكثير منهم من إبداع نكات بشأن رائحة الفلفل هذه، رغم أن مقذوفاتها أردت عدداً كبيراً من أصدقائهم، ودخانها الكثيف سيّل الدموع الغزيرة على وجوههم.

ولقد سعى هذا الكتاب إلى أن يكون جامعاً لكل زوايا التظاهرات، إلا أن هذه المهمّة صعبة، ولا يُمكن تحقيقها خلال وقت قصير. كما أن الكتاب لا يسعى، ولا بأي شكل من الأشكال، إلى منح أهميّة أعلى للقتلى المكتوبة سيرهم على القتلى الآخرين في التظاهرات التي شهدها العراق. وإذا ما تم نشر سير لبعض القتلى فحسب، وإنما ذلك جاء لأن كتاب السير ربطتهم علاقة بهؤلاء، أو أنّهم تابعوا سيرهم قبل أو بعد مقتلهم. وبناء عليه، فإن سيرة أي متظاهر في العراق مهمّة، لأن كل فرد من هؤلاء كانت له أحلامه وآماله وآلامه، ومُهمّة توثيق سيرهم، جميعهم، يجب أن تكون سعيّاً جادّاً للمؤسسات والكُتّاب، حتّى لا ينسى التاريخ وجودهم ومساعيهم لبناء بلاد توفّر العدل لسكّانها، ولا يُعلى فيها شأن فرد ويُحطّ من شأن آخر.

ينقسم الكتاب إلى ١٢ فصلاً، يفسّر بعضها الاحتجاجات، وينتقد بعضها الهفوات، ويكشف بعضها منظومة السلطة التي قمعت وعنّفت شبّان عزّل ببرودة جزّار. في الفصل الأوّل يقدّم زاهر موسى تسلسلاً زمنياً للأحداث الأمنية التي رافقت تظاهرات تشرين الأول / أكتوبر، فيما يُحاول تبيان كيف أن عمليات القتل التي جرت ضد المتظاهرين لم تكن فرديّة، وإنما مؤسساتية ومتغلغلة كاستراتيجية للتعامل مع الاحتجاجات التي تهدّد النظام السياسي في العراق. وفي الفصل الثاني، يكتب سنان أنطون، سيرة مختصرة لأحّد أبرز وجوه التظاهرات الذي قتل بالعنف الممنهج الذي يستعرضه موسى. هي سيرة صفاء السراي، أحلامه وأفكاره وأمنياته، ولحظة مقتله.

في الفصل الثالث تستكشف زهراء علي مشاركة المرأة ومعنى تلك المشاركة وأهميتها ومضمونها. تجادل علي بأن الانتفاضة كظاهرة حضرية في الغالب أنتجت فضاءً اجتماعياً. فقد استعاد المتظاهرون فضاءً حضرياً معسكراً ومخصخصاً وذكورياً، لكن علي تحاول تفسير غياب أجندة نسوية أو أجندة قائمة على النساء في الانتفاضة.
وعن هؤلاء النسوة الكثيرات الجريئات في التظاهرات، اختارت أماني الحسن أن تكتب في الفصل الرابع سيرة رهام يعقوب، المتظاهرة والناشطة البصرية، التي اغتيلت معنوياً قبل اغتيالها المادي وسط محافظة البصرة.
يذهب سلام زيدان، في الفصل الخامس، إلى فكفكة السياسات الاقتصادية للنظام السياسي الذي أدّى إلى انعدام العدالة الاجتماعيّة واعتماد القوى السياسيّة على سياسة "النهب" و"الزبائنية" لإدامة حكمه، ويرى أن محرّك الاحتجاجات لطالما كان منبعه اقتصادي، ويشرح كيف أن حملات في التظاهرات استطاعت تحريك الاقتصادي المحلي.

تحريك الاقتصاد الذي يشير إليه زيدان، كان اعتماده الأساس على الخطاب الذي أرساه المتظاهرون، وهو ما تتفحصه بلسم مصطفى، بشكل موسع، في الفصل السادس. تجادل عوني بأن حركة تشرين ساهمت بخلق سرديةٍ جمعيةٍ مغايرة لسرديات حكومات وأحزاب ما بعد 2003، بعيداً عن الطائفية والإقصائية. هذه السردية، بحسب عوني، دفعت الأحزاب الحاكمة وميليشياتها الى اتخاذ سياسات تصعيدية في الفضاء الإعلامي التقليدي والرقمي لشيطنة التظاهرات وتشويهها
وتشرح عوني كيف اعتمد الحراك على وسائل إعلامية مقروءة وسمعية لمواجهة التضليل الإعلامي وللمحافظة على صورة الاحتجاجات في أذهان المجتمع، وتشدد عوني على أن المتظاهرين أسسوا سردية "يصعب محوها" تتجاوز الطائفية. وإذا كان ما رمت إليه عوني قد تحقق من خلال الخطاب، فإني أجادل، في الفصل السابع، بأن خطوط الانقسام الطائفية التي تأسست بعد عام ٢٠٠٣ على أساس جغرافي قد تم محوها، إلى حدّ كبير، في تظاهرات تشرين. وما كان يمكن كسر الحدود الجغرافية الطائفية من دون تمكن المحتجين من السيطرة على الحيز العام واستخدامه وتقاسمه. كما أُناقش أهميّة الفضاء والحيّز العامين وكذلك الحق في المدينة في بلد مثل العراق.
 
إن النضال لأجل امتلاك المدينة، هو من قاد فتى نازح من الموصل اسمه ريمون إلى المشاركة في تظاهرات بغداد. يكتب خضير فليح الزيدي سيرة ريمون التي بدأت بالتهجير والعوز، وانتهت بسقوطه ببنقدية صيد في تظاهرات تشرين.

يذهب علي عبد الأمير عجام، في الفصل التاسع، إلى تحليل بُنية جيل جديد يشبه ريمون. يُسمّي عجام هذا الجيل بـ"العراقيين الجُدد"، وبُنيتهم قائمة على الاتصال بالعالم من خلال شبكة الانترنيت، وهو الذي قادهم إلى اجترح ثقافة جديدة قوامها الفن، بأشكاله المختلفة، إذ أخرجوه من القاعات المُغلقة إلى الشارع.

ويُعد عمر سعدون واحداً من أبرز أسماء هؤلاء الشباب الجُدد الذي روّع مقتله جميع العراقيين. يروي غسان البرهان في الفصل العاشر سيرة سعدون، وكيف أحدث مقتله هزّة بين عائلته وأصدقائه.
وفي الواقع، ما كان لتظاهرات تشرين أن تكون بهذا الحجم والقوة لولا تظافر جهود الجميع ومنهم النقابات والاتحادات، وهي ما نجادل صفاء خلف وأنا بأهميتها في زيادة زخم التظاهرات. وعلى الرغم من أننا نركّز على حراكها في تشرين، إلا اننا نعود بالتاريخ إلى الخلف لنشرح الظروف التي أدّت إلى إضعاف النقابات والاتحادات، فضلاً عن الأزمات الداخلية التي تعانيها، وطرق التفكير القديمة التي تكبّلها. ويتخلّل جميع الفصول صور من تظاهرات بغداد لمحمد البولاني، الذي رافق التظاهرات من اليوم الأوّل، ووثقّ لحظات أصبحت أيقونية في وقت لاحق.