أثر الحوادث والمنعطفات والتحوّلات التي مرّ بها لبنان منذ 17 تشرين الأول 2019 إلى اليوم على طلّاب الجامعات في لبنان

حول الدراسة

1- المقدمة

من نظام الطائفية الفاسد إلى ثورة تشرين الشبابية

عانى لبنان على امتداد العقدين الأخيرين من سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية المتصاعدة التي كان من أبرز مظاهرها التعاظم الهائل للدين العام، والانكماش الاقتصادي، وضعف وهزال القطاعات الاقتصادية المنتجة، وعجز الاقتصاد المتزايد عن خلق فرص عمل للشباب الذين أصبحت الهجرة أملهم الوحيد، وتصاعد معدلات الفقر والبطالة. ومع تعاظم العجز في الميزان الخارجي وعجز الميزانية وارتفاع خدمة الدين العام وتوقف تدفقات رأس المال الوافدة، وصلت الأزمة الاقتصادية في 2019 إلى مشارف الانهيار والإفلاس المالي. وكان من الواضح أن هذه الأزمات الاقتصادية ترتبط على نحو وثيق بفشل نظام الحكم الطائفي الذي تحول، خلف ستار تقاسم السلطة بين الطوائف، إلى نظام للمحسوبية والفساد، تمكنت من خلاله نخب الطوائف وزعماؤها من الاستيلاء على الدولة ونهب مواردها وتقاسمها. وقد أدى ذلك، بالإضافة إلى تبعاته الاقتصادية والاجتماعية، إلى تقويض قدرات مختلف المؤسسات العامة واستقلاليتها وفعاليتها، مما جعلها أكثر فأكثر عاجزة عن توفير الخدمات العامة الأساسية كالماء والكهرباء وجمع النفايات.

على امتداد هذه الأزمة السياسية والاقتصادية العميقة، شهد لبنان عددا من الحركات الاحتجاجية.  فبعد الانتفاضة الاستقلالية الواسعة التي انفجرت مع اغتيال الحريري في 2005 وأدّت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان، عرف لبنان في 2011، بالتوازي مع ثورات الربيع العربي، تحركات شبابية رفعت شعار "إسقاط النظام الطائفي".  وفي عام 2015 برزت تحركات احتجاجية استمرت أيامًا عديدة ضد الطبقة الحاكمة تحت شعار "طلعت ريحتكم" (استعملت للتعبير عن تراكم النفايات وتعفّنها في الشوارع والأحياء السكنية)إلا أن هذه الحركات الاحتجاجية، لم تتمكن من تجاوز الانقسامات والانتماءات الطائفية لتكون عابرة للطوائف (بما في ذلك انتفاضة الاستقلال في 2005 التي أعادت صياغة الشرخ الطائفي)، كما أنها في كثير من الأحيان كانت تستثني جزءًا من الفئة الحاكمة. واستطاعت النخب الطائفية الحاكمة دومًا التوسل بالاستقطاب والانقسامات الطائفية لإجهاض تلك التحركات الشعبية عبر تنصيب نفسها قيادة لتلك التحركات واستتباعها وتفتيتها (كما في انتفاضة الاستقلال)، أو عبر استثناء جزء من نخب الطوائف الحاكمة من الاستهداف كما جرى في 2011 و2015 مما كان يدفع إلى انقسام وتفتيت الحراك الشبابي، أو عبر تجييش الجماعات الطائفية المختلفة ضد الحراك الشبابي. وقد عمّق ذلك من تهميش الشباب والطلاب وتفتيتهم وتفريدهم وعزلهم فيما بينهم واستبعادهم من الحياة السياسية والعامة .

وقد أدى نجاح النخبة الأوليغارشية في إفشال الحركات الاحتجاجية وتكريس الاستقطاب والانقسامات الطائفية وهيمنة أقطاب السلطة كل على طائفته، على الرغم من تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، إلى انتشار اليأس بين المواطنين من قدرتهم على التأثير في مجرى الأمور وعلى إحداث إي تغيير في نظام المحاصصة الطائفية الذي كان من الواضح أنه يقود لبنان إلى انهيار اقتصادي ومالي واجتماعي وسياسي .

في هذا السياق كانت الثورة أو الانتفاضة الثورية الشبابية الهائلة التي انفجرت على نحو عفوي في 17 تشرين الأول / أكتوبر 2019 على خلفية زيادة الضريبة على "الواتس اب"، واستمرت على نحو متواصل على امتداد أكثر من ثلاثة أشهر، واستطاعت إكراه رئيس الحكومة على الاستقالة – كانت حدثًا مفاجئًا للجميع بمن في ذلك الطلاب والشباب الذين كان لهم الدورالرئيسي في انطلاقتها والمبادرة إليها وانتشارها وتنظيم فعالياتها.

ومنذ انطلاقتها، بدا واضحًا أن هذه الانتفاضة الثورية، التي رفعت شعار إسقاط نظام المحاصصة والفساد الطائفي، كانت تتسم بالعديد من عناصر الجدّة والاستثنائية التي تجعلها مختلفة اختلافا كليا عمّا كان قد شهده لبنان من تحركات احتجاجية. ومن عناصر فرادة هذه الثورة وجدّتها انتشارها السريع وغير المسبوق إلى مختلف مناطق لبنان ومدنه وبلداتهومع الحفاظ على طابعها الشبابي، سرعان ما استقطبت الثورة إليها مئات الآلاف من اللبنانيين من مختلف المناطق الأجيال والطوائف والجماعات على نحو لم يشهده لبنان في تاريخه. ومن أهم عناصر الجدّة أيضًا أن هذه الانتفاضة الثورية التي عمّت لبنان كلّه بمدنه وبلداته، قامت خارج الأحزاب وزعماء الطوائف جميعًا، بل ضد هذه الأحزاب وقيادات الطوائف كلّها. "كلن يعني كلن" كما ردّد اللبنانيون الذين أعلنوا تمرّدهم على زعماء الطوائف ومافياتها الذين استأثروا بالدولة ومواردها غنيمة تقاسموها فيما بينهم. وهي ثورة جمعت للمرة الأولى منذ عقود طويلة، بل منذ الاستقلال، اللبنانيين جميعهم من الطوائف والجماعات كلها، وهذا ما رسم أفقًا جامعًا محتملًا لتوحيد اللبنانيين خارج - لا بل ضد - سلطان زعماء طوائفهم ومافياتهم وشبكات زبائنيتهم.  ومن علامات الجدّة والاستثنائية وأهمّها أيضًا، تزاوج هذا الخروج على زعماء الطوائف، بل على الانتماءات والهويات الطائفية كذلك، بتصدّر المسألة الاجتماعية في الانتفاضة الشعبية في كل المناطق واحتلالها موقع القلب من اهتمام المنتفضين ومطاليبهم. فالمطالبة برحيل زعماء الطوائف هو مطالبة برحيل طبقة وعصابة الفساد التي نهبت البلد واقتصاده وأفقرت اللبنانيين: واتخذت هذه الانتفاضة أيضا طابعا أفقيا ولامركزيًا تجلّى من جهة في غياب ورفض أشكال التنظيم الحزبية التراتبية والقيادة المركزية الموحدة، ومن جهة أخرى في رفض وغياب المركزية الجغرافية مما يسمح بتشكل الهوية والمواطنة والجماعة المحلية لكل واحدة من المدن والبلدات المشاركة في الانتفاضةهكذا تزاوج الخروج على الطوائف وهوّياتها نحو مواطنة جامعة مع إعادة صياغة مواطنة مدينية محلّية منفتحة ترفض المركزية مجانستها واستتباعها واستبدادها.

وربما يكون أكثر ما يميّز انتفاضة تشرين الثورية، بالإضافة إلى طابعها الشبابي، هو البعد النسوي الذي شكّل إحدى علاماتها الفارقة وساهم في تشكيل هويتها وخصوصيتها. إلا أن ما نعنيه هنا بالبعد النسوي لا يقتصر على المشاركة الكثيفة للشابات والنساء في الثورة وفعالياتها وبروزهن في معظم الأحيان في الخط الأمامي من المواجهات مع أجهزة القمع، وإنما يتجاوز ذلك إلى رفع المطالبات والاهتمامات النسوية واحتلالها موقعًا محوريا في المطالبات والاحتجاجات الثورية وتنظيمها.

2- أهداف الدراسة

تهدف هذه الدراسة إلى فهم وتحليل أثر الحوادث والمنعطفات والتحولات التي شهدها لبنان منذ انتفاضة  17 تشرين إلى اليوم على طلاب الجامعات في لبنان، من خلال مقاربة التغيّرات الاجتماعية والثقافية على المستويين الفردي والجماعي، وذلك من خلال ثلاثة محاور:

المحور الأولتأثير المشاركة في انتفاضة 17 تشرين على تشكيل وإعادة صياغة الهويات الشخصية والاجتماعية للشباب وعلى شبكة علاقاتهم وانتماءاتهم ومساراتهم.

المحور الثانيالتحدّيات في خضم الانهيار الاقتصادي وجائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت، وآراء الطلّاب حول أسباب انكفاء الانتفاضة.

المحور الثالثالحركة الطلابية في الجامعات، والنهوض بعد انتفاضة 17 تشرين.