مذكرات جارالله عمر

يضم هذا الكتاب سلسلة من المقابلات اجرتها الاكاديمية الاميركية ليزا ودين مع جارالله عمر في مجرى اعدادها لكتاب عن اليمن، في الفترة بين أيلول/سبتمبر يوم ٢٨ كانون الاول/ديسمبر٢٠٠٣. وقد تفضلت ليزا بتسليمي المخطوطة وتركت لي حرّية ومسؤولية تحريرها واعدادها للنشر. وانا شاكر لها ثقتها ومبادرتها في وضع هذه الوثيقة النادرة بين يدي القراء في اليمن. غني عن القول اني اتحمّل بمفردي المسؤولية عن الحصيلة النهائية للمخطوطة.                                                      

         جارالله عمر نسيج وحده في الحزب الاشتراكي والسياسة اليمنية يتفرّد بقدر ما يجمع. سعى للجمع بين الوطني والقومي من جهة والتحويل الديمقراطي والعدالة الاجتماعية من جهة اخرى، في زمن يُعْمَل المستحيل للتفرقة بين هذه المستويات المتداخلة من قضايانا العربية.

هذا الكتاب شهادة أيضا على ان جارالله عمر نادر بين القادة الثوريين الذين تجرأوا على مراجعة تجربتهم مراجعة جذرية. على النقيض من ممارسة مألوفة لدى الكثير من المعارضون العرب الذين يستسهلون موالاة نظام استبدادي للنضال ضد نظام استبدادي آخر، وقف جارالله عمر امام تلك المفارقة متسائلا كيف يمكن ان يؤيد حكم الحزب الواحد في جنوب اليمن فقط، بل وان يشارك في قيادته، وهو يقود، من عدن، معارضة شعبية مسلحة وسياسية لإسقاط نظام حكم الحزب الواحد في الشمال؟

         لم يؤخذ برأي جارالله في مسألة التعددية والتحويل الديمقراطي. ولا أخذ برأيه عندما دعا لمرحلة انتقالية ينجز فيها النظام في الجنوب التعددية والتحويل الديمقراطي،

نحو وحدة كونفدرالية بالاتفاق بين الرئيسين على وحدة اندماجية عجولة اعتباطية سوف تمهّد للنزاعات اللاحقة وللحرب بين الشطرين.

         بمثل حماسه للوحدة كانت معارضة جارالله لسياسات الاستئثار ومحاولات تهميش الحزب الاشتراكي في ظل نظام الوحدة.

ولكنه مع تزايد مصاعب الشراكة في الحكم مع حزب المؤتمر، دعا الى انتقال الحزب الاشتراكي الى المعارضة على اعتباره السبيل الوحيد لتفادي الاقتتال بين شريكي الحكم. هنا أيضا، لم ينجح في اقناع قيادة الحزب التي كانت متمسكة بالمحاصصة في السلطة. وعندما تدهورت الخلافات بين الطرفين واندلعت المواجهات العسكرية، عام ١٩٩٤، ادان جارالله عمر الحرب والانفصال في آن معا. تعرّض للتخوين من فريقي النزاع واضطّر الى مغادرة عدن سالكا طريق المنفى بعد ان تفاقم الخطر على حياته - من قبل الرفاق!

         عاد جارالله الى اليمن والحزب الاشتراكي مهزومٌ عسكريا، مشتّت القوى، وقد صودرت امواله وممتلكاته ومقرّاته، فأسهم بدور أساسي في اعادة بناء الحزب وتنشيط مشاركته في الحياة السياسية. دعا الى المشاركة في الانتخابات النيابية لعام ١٩٩٧، فواجهته اكثرية تدعو الى مقاطعة العملية الانتخابية. التزم بقرار الاكثرية ولما قرر الحزب خوض الانتخابات في دورتها الثانية كان قد خسر من الشعبية والاصوات ما لا يمكن التعويض عنه.

         هكذا كان جارالله يبتكر، يتحايل، يلتفّ، في الردّ على تكتيكات السلطة بواسطة مخيّلة وحنكة سياسيتين نادرتين. لكنه دخل منطقة الخطر عندما كان احد مهندسي «اللقاء المشترك» الائتلاف الذي ضم التيار الإسلامي القبلي المتمثل بالتجمع اليمني للإصلاح والمعارضة التقدمية المدنية التي يمثلها الحزب الاشتراكي اليمني وحلفاؤه الناصريون والديمقراطيون.

         يوم ٢٨ كانون الاول/ديسمبر ٢٠٠٢، القى جارالله عمر امام مؤتمر التجمع اليمني للاصلاح، خطابا دعا فيه قوى المعارضة، الدينية والعلمانية، الى العمل معاً من اجل مكافحة الفقر والفساد والأميّة وتهميش النساء وتشويه الديمقراطية. بعد دقائق، تقدّم منه عميل للسلطة وأطلق النار على صدره وفي ظنه انه يطلق النار على تلك الاهداف.

         = = =

         تعرفت الى جار الله عمر في عدن، مطلع السبعينات، وقد انتقل من شمال الوطن. ومنذ ذلك الحين صار جارالله مرجعي في اليمن جنبا الي جنب مع صالح مصلح وقد نمت بيننا سريعاً علاقة رفقة نضالية وصداقة شخصية مميزة. وكان جارالله وصالح فريقا على حدة في قيادة الحزب الاشتراكي اليمني يرفض الانضواء في الكتل المتصارعة ويعمل بصمت من اجل قيادة فرع الحزب في الشمال وتحقيق الوحدة اليمنية. رافقتُ مسيرة جارالله قائدا للعمليات العسكرية للجبهة الوطنية الديمقراطية، ثم امينا عاما لحزب الوحدة الشعبية، بعد ان انضمّت اليه فصائل شيوعية وقومية اخرى، وعضوا في المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني ثم نائبا لأمينه العام. رافقته وهو يفاوض رئيسيَن من رؤساء اليمن الشمالي، إبراهيم الحمدي وعلي عبدالله صالح، بإسم معارضة مسلّحة تسيطر على اجزاء واسعة من البلاد. لبّيت دعواته الى مؤتمرات ثقافية دعماً لدعوته للتعددية والديمقراطية في اليمن الديمقراطي. كما لبّيت دعوته مع محمود درويش وميشال خليفه للبحث في تصوير فيلم عن إمريء القيس عندما كان وزيرا للثقافة في اليمن الموحّد. عرفته لاجئا ومنفيا، وعائدا الى الوطن، وقائدا لمعارضة، سياسية هذه المرة، تسعى للبقاء على قيد الحياة وتحافظ على استقلالها في أصعب الظروف. وبعد انقطاعي عن زيارة اليمن منذ خريف العام ١٩٩٣، صار جارالله صلتي شبه الوحيدة باليمن. أنتظرُ زياراته لبيروت للمشاركة في مؤتمر او ندوة لأستمع الى ما يسمّيه «تقارير» يقدّمها عن حال اليمن والحزب الاشتراكي اليمني.

         في كافة احواله وتحولاته جسّد جارالله عمر بالنسبة لي الابرز والاجمل من خصائص شعبه: النبل والتواضع، الجرأة والتسامح، التشدد في المباديء والمرونة في مسارات تحقيقها، فضلا عن ذلك المزيج المميّز من الدهاء والصدق الذي يكتشفه فيه جميع الذين عرفوه.

جرى ترقين القسم الاكبر من هذا الكتاب خلال حياة جارالله بخط اليد في ٢٨٤ صفحة، والباقي تسجيلات صوتية بلغت مدتها ٧ ساعات. تولّت الصحافية زينب سرور، من فريق مجلة «بدايات»، ترقين المخطوطة والتسجيلات الصوتية وتأمين حد أدنى من الصياغة بالعربية الفصحى. وتوليت مهمة التحرير النهائي بما فيه تحويل العامي الى فصيح مبسّط حرصت فيه على ان لا يؤثر في المعنى او يفقد طلاقة السرد واسترساله. وقد حذفت التكرار، وتخلّيت عن معظم الأسئلة، على ما فعل جارالله نفسه عند اشرافه على ترقين التسجيل بخط اليد، او ضمّنت السؤال في الجواب ذاته، واكتفيت بإثبات أسئلة ليزا عندما كانت تنطوي على نقاش لرأي او معارضة لقول من اقوال جارالله. اجتهدت في تفسير او توضيح كلمات وتعابير وضعتها بين هلالين مستقيمين [ ] وأضفت عددا من الهوامش التفسيرية.  كما سوف يلاحظ القاريء، يَعِد جارالله بالحديث عن عدد من الامور ولا يعود اليها وقد قطع الموت رغبته في تنفيذ تلك الوعود.

ادفع هذه المذكرات الى النشر وكلّي ثقة بأنها الوصية التي أراد جارالله عمر ان يتركها لرفيقاته ورفاقه ومحبّيه الكثر وشعب اليمن.